فصل: القسم الأول : من قصص سقوطنا في أوروبا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية **


 القسم الأول ‏:‏ من قصص سقوطنا في أوروبا

* آخر خطواتنا في أوروبا

* أحفاد صقر قريش يسقطون

* وسقط ملوك الطوائف

* قصة الفردوس المفقود

* وقصة أخرى من الأندلس

* ركن من الفردوس يسقط

* سقوط غرناطة ‏"‏ آخر مصارعنا في الأندلس ‏"‏

 آخر خطواتنا في أوربا

قصة ‏"‏ الغنيمة ‏"‏ في تاريخنا غريبة ، والدرس الذي تلقيه علينا - كذلك - أغرب‏!‏‏!‏

لقد بدأت أولى هزائمنا بسبب الغنيمة ، ولقد وقفنا مرغمين - عند آخر مدى وصلت إليه فتوحاتنا ، بسبب الغنيمة - كذلك ‏!‏‏!‏

فقصة الغنيمة ‏.‏‏.‏ هي قصة الهزيمة في تاريخنا ‏.‏

كان قائد المعركة الأولى هو الرسول عليه الصلاة والسلام ‏.‏‏.‏ وخالف الرماة أمره، وخافوا من أن تضيع فرصتهم في الغنيمة ‏.‏‏.‏ فكانت ‏"‏ أحد ‏"‏ وشهد الجبل العظيم استشهاد سبعين رجلا من خيرة المسلمين ‏.‏‏.‏ بسبب الغنيمة ‏.‏‏.‏ نعم بسبب الغنيمة ‏!‏‏!‏

وكان قائد المعركة الأخيرة ‏"‏ عبدالرحمن الغافقي ‏"‏ آخر مسلم قاد جيشا إسلاميا منظما لاجتياز جبال البرانس ، ولفتح فرنسا ، وللتوغل - بعد ذلك - في قلب أوروبا ‏.‏

وهزم الغافقي ‏.‏‏.‏ سقط شهيدا في ساحة ‏"‏ بلاط الشهداء ‏"‏ إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة ‏.‏‏.‏ وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوربا ، وطووا صفحتهم في هذا الطريق ‏.‏‏.‏ وكان ذلك لنفس السبب الذي استفتحنا به دروس الهزيمة ‏.‏‏.‏ أعني بسبب الغنيمة ‏.‏

ومنذ تم الاستقرار في المغرب العربي، وإسبانيا الإسلامية ، وهم يطمحون إلى اجتياز جبال البرانس وفتح ما وراءها ، هكذا أراد ‏"‏ موسى بن نصير ‏"‏ لكن الخليفة الوليد بن عبد الملك ‏"‏ خشي أن يغامر بالمسلمين في طريق مجهولة ثم فكر على نحو جدي ‏"‏ السمح بن مالك الخولاني ‏"‏ والي الأندلس ما بين عامي ‏(‏ 100 - 102 هجرية ‏)‏ ، وتقدم فاستولى على ولاية ‏(‏ سبتماية ‏)‏ إحدى المناطق الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط جنوب فرنسا ، وعبر - بذلك - ‏"‏ السمح ‏"‏ جبال البرانس ، وتقدم فنزل في أرض فرنسا منعطفا نحو الغرب حيث مجرى نهر الجارون ، مستوليا في طريقه على ما يقابله من البلدان ، حتى وصل إلى - تولوز - في جنوب فرنسا - لكن لم يستطع أن يستقر فيها ، وقتل السمح ، وتراجعت فلول جيشه تحت قيادة أحد قواده ‏(‏ عبد الرحمن الغافقي ‏)‏ فكأن السمح لم ينجح إلا في الاستيلاء على سبتماية ‏.‏

ثم واصل الوالي الجديد بعد ‏(‏ عنبسة بن سحيم الكلبي ‏)‏ التقدم نحو أوربا ، وإن كان قد غير طريق السير ، وتمكن من الوصول إلى ‏"‏ أوتان ‏"‏ في أعالي نهر الرون ، لكنه لم يكن حذرا فلم يؤمِّن طريق عودته فانتهى الأمر بقتله وعاد جيشه إلى أربونة في سبتماوية ‏.‏

لكن عبد الرحمن الغافقي ، كان الشخصية الحاسمة التي أرادت التقدم نحو أوربا وحرصت عليه ، وكان عبد الرحمن مشبعا بروح الإيمان والرغبة في الثأر لما أصاب المسلمين من قبل حين قتل ‏"‏ السمح ‏"‏ وحين رجع هو بالجيوش الإسلامية إلى سبتماوية ‏(‏ وقد أعلن الغافقي الدعوة للجهاد في الأندلس كلها وفي أفريقية ، وقد جاءته وفود المتطوعين من كل مكان ، كما أنه من جانبه استعد استعدادا كبيرا لهذا الغزو ‏)‏ ‏.‏

ولقد التقى المسلمون ‏(‏ عربا وبرابرة ‏)‏ بالمسيحيين بين بلدتي ‏"‏ تورو ‏"‏ و ‏"‏ بواتيه ‏"‏ على مقربة من باريس ، وكان قائد النصارى ‏(‏ شارل مارتل ‏)‏ وزير دولة الفرنجة وأمين القصر ، بينما كان ‏(‏ عبد الرحمن الغافقي ‏)‏ - يقود جيوش المسلمين‏.‏ وكانت المعركة شديدة قاسية استمرت قريبا من سبعة أيام ، وكان الجيش الفرنجي وحلفاؤه أكثر من جيش العرب ، ولكن المسلمين أحسنوا البلاء في القتال ، وكاد النصر يتم لهم ‏.‏‏.‏ لولا أن ظهرت قضية ‏"‏ الغنائم ‏"‏ ‏!‏‏!‏

لقد عرف المسيحيون أن لدى الجيش الإسلامي غنائم كثيرة حصل عليها من معاركه أثناء تقدمه من قرطبة حتى ‏"‏ بواتيه ‏"‏ ‏.‏‏.‏

وقد أثقلت هذه الغنائم ظهور المسلمين ، وكان من عادة العرب أن يحملوا غنائمهم معهم ، فيضعوها وراء جيشهم مع حامية تحميها ‏.‏

وقد فهم النصارى هذا ، ونجحوا في ضرب المسلمين عن طريق التركيز على هذا الجانب ، لقد شغلوهم من الخلف ‏.‏ من جانب الحامية المكلفة بحراسة الغنائم ‏.‏‏.‏ ولم يفطن المسلمون للتخطيط النصراني ، فاستدارت بعض فرقهم لحماية الغنائم ‏.‏‏.‏ وبالتالي اختل نظام الجيش الإسلامي ‏.‏‏.‏ ففرقة تستدير لحماية الغنائم ، وأخرى تقاتل النصارى من الأمام ‏.‏‏.‏

وعبثا حاول عبدالرحمن الغافقي إنقاذ نظام الجيش الإسلامي ، إلا أن سهما أصابه وهو يبذل محاولاته المستميتة ‏.‏‏.‏ فوضع حدا لمحاولات الإنقاذ ، وأصبح جيش المسلمين دون قيادة ‏.‏‏.‏ وتقدم النصارى فأخذوا بخناق المسلمين من كل جانب وقتلوا من جيشهم الكثير ‏!‏‏!‏

لقد كانت ‏"‏ بلاط الشهداء ‏"‏ سنة 114 هجرية آخر خطوات المد الإسلامي في اتجاه أوربا ، أو على الأقل آخر خطواته المشهورة ‏.‏

ثم توقف المد ‏.‏‏.‏ لأن بريق المادة غلب على إشعاعات الإيمان ‏!‏‏!‏

والذين يسقطون في هاوية البحث عن الغنائم لا يمكن أن ينجحوا في رفع راية عقيدة أو حضارة ‏.‏

 أحفاد ‏"‏ صقر قريش ‏"‏ يسقطون

خلافة ولدت من خلافة ‏.‏‏.‏ ولئن كان أبو مسلم الخراساني ، وأبو عبيد الله السفاح قد استطاعا أن يقضيا على دولة الخلافة الأموية بدمشق سنة 132 هـ ، وأن يقتلا مروان بن محمد بحلوان مصر ، فيقتلا بقتله آخر خليفة أموي في المشرق العربي، فإن هذه الخلافة المنهارة ، قد نبتت لها بذرة غريبة الشكل والتكوين في أرض تفصلها عنها بحار ، وآلاف الأميال ‏.‏

وقد استطاع عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ، أن يكون هو الفارس لهذه النبتة في الأندلس ، بعد مطاردة عنيفة تصلح أن تكون عملا روائيا عظيما ‏.‏‏.‏

ونجح ‏"‏ صقر قريش ‏"‏ العجيب في أن يهرب أمام الجنود العباسيين حتى وصل إلى فلسطين ، ومنها إلى مصر ، ثم إلى المغرب بعد خمس سنوات من التجول والتخفي عن عيون العباسيين ‏.‏‏.‏‏.‏

لقد كان يحكم الأندلس آنذاك يوسف بن عبد الرحمن الفهري نيابة عن العباسيين ، وقد حاول الفهري مقاومة تسلل وتجمعات عبدالرحمن الداخل ، لكنه هزم أمامه عندما التقيا سنة 139 هـ ، ودخل عبد الرحمن قرطبة ، فتأسس بذلك للأمويين الذين سقطوا في دمشق على يد العباسيين ، ملك جديد في الأندلس الإسلامية ‏.‏ لم تنجح كل محاولات العباسيين على عهد جعفر المنصور في استرداد الأندلس ، كما لم تنجح محاولات ملك الصليبيين ‏(‏ شارلمان ‏)‏ في استغلال الظروف والقضاء على صقر قريش ، واستتب بذلك الأمر للفرع الأموي الذي تكون في الأندلس ‏.‏

لقد عاش عبد الرحمن الداخل يبني ويقوي من دعائم دولته أكثر من ثلاثين سنة بعد ذلك ‏.‏

فلما مات سنة 172 هـ كان قد ترك وراءه دولة قوية البنيان توارثها أبناؤه من بعده ‏.‏‏.‏ تولاها هشام ابنه ، ثم عبد الرحمن الثاني ، إلى أن وصل الأمر إلى عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر ، الذي اعتبر عهده قمة ما وصلت إليه الأندلس الأموية من ازدهار وتقدم ‏.‏

وقد دام حكم الناصر هذا نصف قرن من الزمان ‏.‏ نعمت الأندلس فيه بخير فترات حياتها في ظلال الإسلام ، وطلبت ود الدولة المماليك النصرانية المحيطة بها ، وأصبحت قرطبة ، والمدن الأندلسية الأخرى ، كعبة العلوم ، ومقصد طلاب العلم، وعواصم الثقافة العالمية الراقية ‏.‏‏.‏

وفي سنة 350 هـ مات عبد الرحمن الناصر هذا ، فتربع على عرش الأندلس من بعده ولده الحكم بن عبد الرحمن الناصر ، ثم حفيده هشام الضعيف الذي تسلط عليه الحجاب وأبرز هؤلاء الحجاب المنصور محمد بن عبد الله بن أبي عامر ، الذي حكم باسم الأمويين بمعونة أم الخليفة ‏"‏ صبح ‏"‏ وتمكن من تحويل الخلافة لنفسه ولأبنائه مدة قصيرة ، مكونا خلالها الدولة المنسوبة إليه ، والمسماة بالدولة العامرية ‏.‏

ثم عادت أمور الأمويين إليهم فترات قصيرة قلقة ، إلى أن قضي عليهم قضاء أخيرا في الأندلس سنة 422 هـ ، وعلى أنقاضهم قامت مجموعة دويلات هزيلة في الأندلس عرف عهدها بعهد ملوك الطوائف ، الذي كان من أكثر عهود المسلمين في الأندلس تفككا وضعفا وانحدارا نحو هاوية السقوط ‏.‏

لقد قضى على الأمويين في الأندلس عاملان بارزان - أولهما ‏:‏ أن هؤلاء الأمويين لم يفهموا طبيعة التكوين الأندلسي ، أو فهموه ولم يقوموا بما تتطلبه طبيعته ، وأبرز سمات هذا التكوين ، وجود النصارى في ترقب دائم لأية ثغرة ينفذون منها ، وتباين الأجناس التي تعيش على أرضهم وتستظل برايتهم ، لا يجمعها إلا أقوى وشيجة في التاريخ وهي الإسلام ‏.‏ ولم يكن هناك من حل حضاري لمواجهة طبيعة هذا التكوين إلا تعميق ‏"‏ الإسلامية ‏"‏ وتجديدها بين الحين والحين ، بحركات جهاد مستمرة ضد المماليك النصرانية المتحفزة ‏.‏‏.‏ وحركات جهاد تمتص المشاكل الجنسية الداخلية ، وفي الوقت نفسه توقف النصارى عند حدودهم وتجعلهم في موقف الدفاع لا الهجوم ‏.‏

والعامل الثاني البارز كذلك ، هو ترك بعض هؤلاء الخلفاء الأمور لحُجَّابهم أو نسائهم ، مما مكن لرجل كالمنصور بن أبي عامر سرقة الخلافة دون جهد ‏.‏

ومن حقائق التاريخ التي نستفيدها من الوعي به وبقوانينه ، أن الدولة التي لا تفهم طبيعة تكوينها ، وتعمل على إيجاد حل دائم ملائم لهذه الوضعية ، تكون معرضة للزوال ‏.‏‏.‏ وهذا هو الأمر الذي آلت إليه أمور بني أمية في الأندلس بعد حياة دامت قريبا من ثلاثة قرون ‏.‏‏.‏

 وسقط ملوك الطوائف

عندما أوشكت الخلافة الأموية في الأندلس على السقوط ، لم تسقط دفعة واحدة ‏.‏

لقد جرى عليها ما جرى على الفاطميين بعد ذلك في مصر ، وما جرى على المماليك أيضا ‏.‏‏.‏ لقد ضاعت الزعامة منهم عبر انقلاب سلمي لم ترق فيه قطرة دم - بالمعنى المباشر للانقلابات الدموية - ‏!‏‏!‏

لقد ولي أمر الخلافة طفل في السابعة من عمره يدعى ‏"‏ هشاما ‏"‏ ولما لم يكن بإمكانه حكم البلاد ، فقد كانت أمه ‏"‏ صبح ‏"‏ وصية عليه ، ولم تستطع صبح هذه أن تنفرد بالسلطة ، فقد أشركت معها في الأمر رجلا من أغرب الرجال وأقدرهم يدعى ‏"‏ المنصور بن أبى عامر ‏"‏ ‏.‏‏.‏

وقد نجح هذا المنصور في أن يعبر الانقلاب السلمي بنجاح ، ويحول الخلافة الأموية في الأندلس إلى ملك ينتسب إليه ، ويرثه أبناؤه من بعده ‏!‏‏!‏ وإن كان لبني أمية الاسم الرمزي والخلافة الصورية ‏.‏

ولم يمض أكثر من أربعين سنة حتى كانت دولة العامريين قد أصبحت آخر ومضة تمثلت فيها دولة الخلافة الأموية في الأندلس ، وبسقوط دولة العامريين التي قامت على غير أساس ، انفرط عقد الأندلس ، وظهر بهذه الأرض الطيبة عصر من أضعف وأردأ ما عرف المسلمون من عصور الضعف والتفكك والضياع ‏.‏

لقد ورث خلافة الأمويين أكثر من عشرين حاكما في أكثر من عشرين مقاطعة أو مدينة ، وقد انقسم هؤلاء الحكام إلى بربر وصقالبة وعرب ، وكانت بينهم حروب قومية لم يخمد أوارها طيلة السنوات التي حكموا فيها ، ولقد ترك هؤلاء الملوك المستذلون الضعاف الملوك النصارى يعيشون بهم ويتقدمون في بلادهم ، وانشغلوا هم بحروبهم الداخلية ، وباستعداء النصارى ضد بعضهم البعض ، وتسابقوا على كسب النصارى ، وامتهنوا في ذلك كرامتهم وكرامة الإسلام ، فدفعوا الجزية وتنازلوا طوعا عن بعض مدنهم للنصارى ، وحاربوا في جيوش النصارى ضد المسلمين من إخوانهم في المدن الأخرى من أرض الأندلس الإسلامية ‏.‏

ولا يستطيع المرء أن يزعم أن باستطاعته أن يحصي كل مساوئ الفترة المسماة بفترة ملوك الطوائف ‏.‏

ولقد أدى التنافس بين هؤلاء الملوك إلى رفعة منزلة الشعراء والأدباء والمطربين ، ولم يكن ذلك حبا في الأدب ، ولا إعجابا بفن الطرب ، وإنما كان ذلك من جملة أساليبهم في حرب بعضهم البعض ، وفي محاولة تحصيل المجد والشهرة المزيفين‏.‏

وقد اشتهر من بين هؤلاء الملوك المتنافسين أسرة بني عباد ، التي نبغ فيها المعتمد بن عباد كأمير مشهور عاطفي ، وكشاعر كبير ذي قلم سيال ‏!‏‏!‏

ولقد استفحل الخلاف والتنافس بين هؤلاء الملوك ، كما استفحل كذلك ضعف كل منهم ، وكان من نتائج ذلك طمع النصارى في إشبيلية وفي المدن الأندلسية الأخرى ‏.‏

ولئن كان للمعتمد بن عباد من فضل ، فإن ذلك الفضل لن يكون إلا في محاولته مقاومة هذا الخطر حين رأى دنوه من أبواب المسلمين ‏.‏

ولم يكن أمامه من مخرج غير الاستعانة بقوة المغرب العربي ‏.‏‏.‏ فاستعان بالمرابطين في المغرب الأقصى ، وعندما كان بقية ملوك الطوائف يبدون خشيتهم من المعتمد ، قال لهم كلمته المشهورة ‏:‏ ‏"‏ لأن أرعى الجمال في صحراء العرب خير من أرعى الخنازير في أرض الصليبيين ‏"‏ ‏.‏

ولقد تقدم زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين فعبر البحر و ‏(‏ جبل طارق ‏)‏ لنجدة المسلمين في الأندلس وحقق في ‏(‏ معركة الزلاقة ‏)‏ سنة 479 هـ ‏(‏ 1086 م ‏)‏ انتصارا كبيرا ساحقا على النصارى كان من أثره مد عمر الإسلام في الأندلس فترة أخرى من الزمن ‏.‏

ولقد تبين ليوسف بن تاشفين بعد ذلك أن ملوك الطوائف هؤلاء ليسوا أهلا للبقاء في مراكز السلطة في الأندلس ، وجاءته النداءات والفتاوى من العلماء كالغزالي بوجوب الاستيلاء على الأندلس فاستولى على الأندلس وأعاد إليها وحدتها ، وطرد هؤلاء الطائفيين الذين كانوا يخشون قدومه ، ويفضل بعضهم النصارى عليه ‏.‏

وفي مدينة ‏(‏ أغمات ‏)‏ بالمغرب الأقصى عاش ‏(‏ ابن عباد ‏)‏ أشهر ملوك الطوائف بقية أيامه فقيرا ذليلا لا يجد ما يكفيه ‏!‏‏!‏

إن هذه هي النتيجة الطبيعية لكل ملوك طوائف في كل عصر ، فالذين يخشون الموت سيموتون قبل غيرهم ، والذين يحسبون للفقر حسابه مضحين بكرامة دينهم ووجود أمتهم ‏.‏‏.‏ سوف يصيبهم الفقر من حيث لا يشعرون ‏.‏

ولقد نسي ملوك الطوائف هذه الحقائق ‏.‏‏.‏ فنغص الله كل شيء عليهم حتى الموت ، كما قال ابن صمادح الطائفي حاكم ‏(‏ ألمرية ‏)‏ وهو يحتضر ويسمع أصداء الهجوم على قصره ، فليبحث ملوك الطوائف في كل عصر عن الحياة ، حتى لا يبحثوا ذات يوم عن الموت فلا يجدوه ، وحتى لينغص الله عليهم كل شيء حتى الموت ‏.‏‏.‏ فتلك سنة الله ‏.‏

ولن تجد لسنة الله تبديلا ‏.‏‏.‏‏.‏

 قصة الفردوس المفقود

كانت السنوات الأولى من القرن الخامس الهجري ‏"‏ الحادي عشر الميلادي ‏"‏ تحمل في أحشائها وباء خطيرا على الأندلس الإسلامية ‏.‏

لقد سقطت الدولة العامرية ، آخر حامية للدولة الأموية في الأندلس ، ولقد ظهر أن أحفاد عبد الرحمن الداخل الأمويين أقل من أن يقوموا بعبء حماية الإسلام الأندلسي ‏.‏

وكان البربر قد هاجر كثير منهم إلى الأندلس بحثا عن سلطة أو زعامة ، وكان الصقالبة وهم مجموعة من النازحين إلى الأندلس من طوائف مسيحية مختلفة ، كان هؤلاء الصقالبة يشكلون بدورهم عنصرا من عناصر الوجود في الحياة الإسبانية الإسلامية ‏.‏

ومن هذه القوميات المتناطحة تشكل الوجود الأندلسي غرة القرن الخامس الهجري ‏.‏‏.‏ فلما سقطت خلافة الأمويين الإسلامية في الأندلس ، نتيجة امتصاص طاقتها في مشاحنات داخلية ‏.‏‏.‏ تحركت كل هذه الطوائف المقيمة فوق أرض الأندلس الإسلامية تبحث عن السلطة والامتلاك ‏.‏

وبدلا من أن تتحد قواهم في وجه المسيحيين المجاورين لهم وبدلا من أن يرفعوا راية الإسلام والجهاد ‏.‏‏.‏ كأمل ينقذ أندلسهم من التحدي الصليبي المتربص بهم ‏.‏‏.‏ بدلا من هذا ‏.‏‏.‏ أعلنوا أحقاد القومية الطائفية والنعرات الجنسية ‏!‏‏!‏

وظهر في الأندلس أكثر من عشرين دولة يتقاسمها الأندلسيون والبربر والعرب والصقالبة ‏.‏‏.‏ ففي كل مدينة دولة ، بل ربما اقتسم المدينة أكثر من طامع ومنافس‏.‏

واستمر أمر هذه الدول أو هذه المدن المتنافسة التي عرف حكامها بملوك الطوائف ‏.‏‏.‏ استمر أمرها أكثر من خمسين سنة ‏.‏‏.‏ امتهن فيها الإسلام والمسلمون ، وتوسل كل ملك منهم بالنصارى ضد إخوانه المسلمين ، ووقف ابن حيان ‏"‏ - مؤرخ الأندلس - يستشف ما وراء الحجب ويقول لأبناء جنسه ‏:‏

يا أهل أندلس شدوا رواحلكم ** فمـا المـقام بها إلا من الغلـط

الثوب ينسل من أطرافه وأرى ** ثوب الجزيرة منسولا من الوسط

من جاور الشر لا يأمن بوائقه ** كيف الحياة مع الحيات في سفط

لقد فشل ملوك الطوائف في أن يلموا شعثهم ، وأن يتكتلوا ضد النصارى ‏.‏‏.‏ ومن عجيب المقادير أن ‏"‏ ألفونسو السادس ‏"‏ ملك قشتالة وليون واستوريا ، كان يتظاهر بحماية هؤلاء الملوك المسلمين ، ويأخذ منهم الجزية والإتاوات التي يرفع من قيمتها سنة بعد أخرى ، واستطاع أن يعد عدته من الإتاوات التي يفرضها عليهم ليلتهمهم بها كلهم ‏.‏‏.‏ وكان آخر ما التهمه ألفونسو من أرض المسلمين تحت سمع وبصر هؤلاء الإسلاميين بل وبمساعدة بعضهم ‏.‏‏.‏ مدينة طليطلة سنة 478 هـ 1085م ‏.‏

وعند هذه الموقعة تأكد لدى أكبر ملك من ملوك الطوائف ‏"‏ المعتمد بن عباد ‏"‏ أن ألفونسو يريد الالتهام ‏.‏‏.‏ ولا أقل من الالتهام الكامل ‏.‏‏.‏ وفكر المعتمد في وسيلة الإنقاذ ‏.‏‏.‏ وضعته الأقدار أمام حل واحد لم يكن له خيار فيه ‏.‏

لقد قرر أن يستنجد بالمرابطين المسلمين الموجودين في المغرب الأقصى كقوة إسلامية ناشئة ‏.‏‏.‏

وقد نجح المرابطون في إيقاف الزحف النصراني ، وأذلوا كبرياء ألفونسو ، واستردوا كثيرا من مدن الإسلام ، ولم يحاول الأندلسيون بناء أنفسهم ‏.‏‏.‏ لم يحاولوا صنع التقدم من خلال الذات ‏.‏‏.‏ لقد اعتادوا تسول النصر واستيراد البقاء من إخوانهم المغاربة المسلمين ‏.‏

وحقيقة ‏.‏‏.‏ نعم حقيقة ‏.‏‏.‏ بقيت الأندلس إسلامية باستيرادها النصر أيام المرابطين ثم أيام الموحدين ثم أيام بني مرين ‏.‏‏.‏ وبقيت مملكة غرناطة الإسلامية وحدها أكثر من مائتي سنة تصارع الموت - كوهجة الشمس قبل الغروب ‏.‏

ولكن قانون الحضارة كان قد قال كلمته ‏.‏‏.‏ فإن الذين فشلوا في أن يخلقوا من أنفسهم قوة قادرة على الحياة ما كان ينفعهم أن يشتروا النصر أو يستوردوه ‏.‏

وفي سنة ‏(‏897هـ ‏)‏ 1542م سقطت غرناطة آخر ممالك الإسلام في الأندلس ، وطرد المسلمون شر طردة ‏.‏ وكانت هذه هي النهاية التي تنبأ بها الشاعر ابن حيان وغيره من هؤلاء الذين أدركوا قانون البقاء الذي هو من سنة الله ‏.‏

نعم ‏:‏ أدركوا أن التاريخ لا يقوم بالاستيراد ، ولا تنتصر حركة تقدمه بالمتسولين ‏!‏

 وقصة أخرى من الأندلس

كانت الحالة سيئة للغاية ‏.‏‏.‏ وعندما تصل حركة التاريخ إلى طريق مسدود بعد أن يفسق أهل القرى ويخلعوا طاعة الله ‏.‏‏.‏ في هذه الحال يكون لا أمل إلا في شيء واحد ‏.‏‏.‏ هو الزوال ‏.‏‏.‏ وهذه هي المعادلة الوحيدة الصحيحة في تفسير التاريخ ‏:‏ خروج على قوانين الله ‏.‏‏.‏ إمهال نسبي من الله قد يغري الخارجين على القانون بالتمادي ‏.‏‏.‏ تجمع لعوامل الفناء ‏.‏ إغلاق لباب العودة ‏.‏ إبادة وموت في شكل مجموعة من الكوارث ‏!‏‏!‏

وإلى الحالتين الأخيرة وما قبلها ‏.‏‏.‏ وصلت حال الأندلس في القرن السابع الهجري ‏.‏‏.‏ ذلك القرن الذي شهد سقوط معظم القلاع والمدن الإسلامية الأندلسية ، ولم تفلت منه - إلى حين - سوى مملكة غرناطة ، التي لم تلبث بعد قرنين - أن لقيت حتفها ‏.‏

وعلى امتداد الأندلس - شرقيه وغربيه - بدأت حركة ما يسمى بالاستيراد الصليبي تسوق المسلمين المفككين ، المتناطحين بالألفاظ ، المقسمين في ولائهم بين ملوك النصارى ‏.‏‏.‏ تسوقهم إلى حتفهم الأخير ‏.‏

وبعد سقوط الموحدين في الأندلس ، انفرط عقد هؤلاء ، فلم يعد يجمعهم جامع من خلافة إسلامية جامعة ، أو من استجابة لتحد خارجي ، أو من عقيدة متفوقة تشتعل أعماقهم بها ، ويبحثون عن رفعها أكثر مما يبحثون عن رفعة أنفسهم ‏.‏‏.‏ ولذا ؛ فقد تبع سقوط الموحدين التمهيد لسقوط كثير من مدن الأندلس كمرسية وبلنسية وقرطبة والشرق الأندلسي ‏.‏‏.‏ ثم الغرب الأندلسي الذي كانت عاصمته إشبيلية ‏!‏‏!‏

لقد عرف أهل إشبيلية بعد سقوط الموحدين ، أنهم لا بد لهم من حماية خارجية بعد أن فشلوا في الاعتماد على الذات ‏.‏‏.‏ وقد أرسلوا بيعتهم إلى الأمير أبي زكريا الحفصي أمير الحفصيين في تونس هؤلاء الذين لمعوا بعد سقوط الموحدين ، لكن الرجال الذين أرسلهم الأمير الحفصي إلى إشبيلية أساءوا معاملة الناس وأظهروا الفساد ‏.‏‏.‏ فاضطر أهل إشبيلية لإخراجهم ، وبدءوا في الاعتماد على أنفسهم ، وألغوا معاهدة ذليلة كانت قد عقدت بينهم وبين ملك قشتالة النصراني فرناندو الثالث ، وقتلوا ‏"‏ ابن الجد ‏"‏ صاحب مشروع المعاهدة المذكورة ونصير السياسة المستذلة للنصارى ‏.‏

وكان هذا نذيرا ببداية النهاية لإشبيلية ، إلا أنهم قد فقدوا العون الإسلامي الخارجي ‏.‏‏.‏ وأعلنوا - بقطعهم المعاهدة - حربا على قشتالة ، لم تكن ظروفهم مهيأة لدخولها ‏.‏

وقد شهدت سنة 644هـ بداية التحرك النصراني ضد إشبيلية ، واستولى الصليبيون على حامية إشبيلية في هذا العام ‏.‏‏.‏ وكان ذلك بمساعدة ابن الأحمر ملك غرناطة وفقا لمعاهدته مع فرناندو ‏.‏‏.‏ ‏!‏

وفي العام التالي تقدمت الجيوش النصرانية مرة أخرى على إشبيلية ، وقد نجحت في الاستيلاء على عشرات من المدن الإسلامية بفضل تدخل ابن الأحمر ، ومنعه هذه المدن من القتال بحجة أن القتال عبث ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏!‏‏!‏‏!‏

وتم حصار إشبيلية وتطويقها من جميع الجهات بالكتائب النصرانية ‏.‏ وبالكتيبة التي يقودها ابن الأحمر المسلم ، مشتركين جميعا - باسم وحدة الطبقة العاملة فيما نظن ‏!‏‏!‏ - في تشريد أهلها وسحق دعوة الإسلام بها ‏.‏‏.‏ ولعل وجود راية محاربة إسلامية يلمحها المسلمون المحاصرون ‏.‏‏.‏ كان أشد ضربة تلقاها بعيون وقلوب باكية أهل إشبيلية المستبسلون ‏!‏‏!‏

لقد وقف أهل إشبيلية الشرفاء نحوا من سنة يدافعون الحصار النصراني المدعوم من ابن الأحمر ‏.‏‏.‏ وقد نجحوا في إيقاع النصارى في أكثر من كمين وأصابوهم بالهزيمة غير مرة ‏.‏

وقد حاولوا - وهم في حصارهم ، الاستنجاد بالمغرب دون جدوى ‏.‏‏.‏ بينما توالت النجدات على النصارى ، حتى نجحوا بسببها في منع المؤن عن المسلمين المحاصرين في إشبيلية ‏.‏‏.‏ فنفدت الأقوات وبدأ شبح الجوع يدب في أوصال المدينة المجهدة ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏!‏‏!‏

وكان قضاء الله ‏.‏‏.‏ وخرج المسلمون الإشبيليون من مدينتهم وفق شروط المعاهدة ‏.‏‏.‏ خرجوا نازحين إلى مدن إسلامية أسبانية أخرى لم تلبث أن أسقطت ‏!‏‏!‏

لو كان هؤلاء المسلمون في مئات المدن التي استسلمت دون قتال بواسطة ابن الأحمر أو خوفا من الموت ‏.‏‏.‏ لو كان قد اتحدوا وقاتلوا ‏.‏‏.‏ أو لو أنهم قاتلوا تحت أي ظرف ‏.‏‏.‏ أكانت النتيجة ستصبح شرا من هذا الحال الذي لقيه المسلمون في الأندلس ‏؟‏

لكنها سنة الله في حركة التاريخ ‏.‏‏.‏ فعندما يتم الخروج على قوانين الله تتجمع عوامل الفناء فيغلق باب العودة ‏.‏‏.‏ فتتحقق الإبادة ‏.‏‏.‏ ويتحقق الموت في شكل مجموعة من الكوارث ‏.‏‏.‏ سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ‏!‏‏!‏

 ركن الفردوس يسقط

حين تذهب إلى التاريخ تتلقى منه تلقي التلميذ المتعلم ، وليس تلقي التلميذ المتحجر المكابر ، يروعك أنك تقرأ نفسك ومجتمعك وأحداث عصرك في بعض صفحاته ، وتكاد تحس بأن ما يدور حولك ليس إلا آخر طبعة من كتاب التاريخ ، وأن الذين يظنون أنفسهم آخر حلقات التاريخ - أي أفضلها - أو يظنون أنفسهم خارج دائرة التاريخ ‏.‏‏.‏ هؤلاء وأولئك قوم مخدوعون ، يمتازون بالغباء الشديد والسذاجة المفرطة ‏.‏

إن قصة خروجنا من الأندلس لم تكن قصة عدو قوي انتصر علينا بقدر ما كانت قصة هزيمتنا أمام أنفسنا ‏.‏‏.‏ قصة ضياعنا وأكلنا بعضنا بعضا كما تأكل الحيوانات المنقرضة بعضها بعضا ‏.‏

وكان سقوط ‏(‏ قرطبة ‏)‏ أكبر معاقل الإسلام في الأندلس سنة 633هـ النهاية لسقوطنا التام في الأندلس ‏.‏

وقد اضطر ابن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة إلى أن يهادن ملك قشتالة الصليبي، وأن يعقد معه صلحا لمدة عشرين سنة ، وأن يسلم له - بناء على شروط الصلح - مدينة جيان وما يلحق بها من الحصون والمعاقل ، وأن ينزل عن أرجونة وبيع الحجار وقلعة جابر وأرض الفرنتيرة ‏.‏‏.‏ واعترف بالطاعة لملك قشتالة وتعهد بأن يؤدي إليه جزية سنوية قدرها مائة وخمسون ألف مرافيدي ‏(‏ العملة الإسبانية ‏)‏ وأن يعاونه في حروبه ضد أعدائه ‏(‏ المسلمين ‏)‏ ‏!‏ وعندها استغل ملك قشتالة هذا الصلح ليتفرغ لضرب المسلمين الآخرين ، هاجم مدينة إشبيلية قاعدة غربي الأندلس كله ‏.‏‏.‏ وكانت هناك كتيبة إسلامية أرسلها ابن الأحمر تهاجمها معه ‏(‏ باسم التقدمية ‏!‏‏!‏‏)‏ فسرعان ما سقطت إشبيلية الإسلامية حاضرة الثقافة الإسلامية الرفيعة - بيد فرناندو الثالث ملك قشتالة سنة 646هـ وبمعونة ابن الأحمر 0- مؤسس مملكة غرناطة العظيم ، ‏.‏‏.‏ ولم تعد إشبيلية إلى الإسلام منذ ذلك اليوم ‏!‏‏!‏

وعندما كاد أمد الصلح بين ابن الأحمر وبين ملوك قشتالة ينتهي بعد ‏(‏ العشرين سنة ‏)‏ سعى ابن الأحمر لتجديد الصلح ‏.‏‏.‏ وفي سبيل ذلك تنازل لقشتالة عن عدد كبير من بلاد الإسلام قيل إنها بلغت أكثر من مائة بلد وحصن ‏!‏

وأنا لا ألوم ابن الأحمر وحده ‏.‏‏.‏ إنما ألوم ملوك الطوائف جميعا ‏.‏‏.‏ لقد كان كل شيء ممكنا بالنسبة لهم - وفي عرفهم - عدا شيئا واحدا ‏.‏‏.‏

كان الترامي في أحضان العدو ممكنا ‏.‏‏.‏ وكان التنازل له عن الأرض ممكنا ‏.‏‏.‏ وكان الخلاف بين بعضهم وبعض لدرجة الاستنجاد بالعدو ممكنا ‏.‏‏.‏ أجل ‏.‏‏.‏ كان كل هذا ممكنا إلا شيئا واحدا ‏.‏‏.‏ إلا العودة إلى الإسلام الصحيح الخالي من حب السلطة واستعباد الدنيا ‏.‏‏.‏‏.‏ والأمر بالاعتصام بحبل الله وحده وعدم التفرقة ‏.‏‏.‏ كل شيء كان ممكنا - في عرفهم - إلا هذا ‏.‏

وبالطبع ‏.‏‏.‏ فإن لنا أن نتوقع ظهور كثير من الحركات التقدمية والقومية والجدلية في مثل هذا المناخ الفاسد ‏.‏‏.‏ وبالتأكيد ‏.‏ لولا بروز مثل هذه النزعات التي لا شك في أن النصارى قد ساعدوا على ترويجها ، لولا هذا لأصبح المكان خاليا وملائما لبروز الحل الوحيد الصحيح ‏.‏‏.‏ الحل الإسلامي ‏.‏

وفي الشرق الأندلسي كان شيء من هذا يحدث على نحو أعتى وأقسى ، ففي ‏"‏ بلنسية ‏"‏ ‏.‏‏.‏ كان آخر أمراء الموحدين هناك ‏"‏ أبو زيد بن أبي عبد الله ‏"‏ يلجأ بعد انهيار ملكه في بلنسية تحت ضربات منافسه ‏"‏ أبي جميل زيان ‏"‏ ‏.‏‏.‏ وكان هذا الموحدي العاق الجاحد يشهد مع ملك أرجوان كل غزواته ضد المسلمين ‏.‏‏.‏ ولم يكتف بهذا المصير التعس ‏.‏‏.‏ فاتخذ قراره الثوري الحاسم ‏"‏ باعتناق النصرانية‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏‏!‏‏!‏

وبينما كانت مدن بلنسية الكبرى وقراها وحصونها تتداعى ما بين سنوات ‏(‏ 63-636هـ ‏)‏ كان ‏(‏ أبو زيد ‏)‏ يبذل جهوده مع النصارى في حروبهم ضد الإسلام‏.‏‏.‏ ويعاونهم في التعرف على نقاط الضعف لدى أبناء دينه السابق ‏.‏ وفي الوقت نفسه كان ابن الأحمر يساعد ملك قشتالة بكتائبه ضد إخوانه المسلمين ‏.‏

وتسألني لماذا طردنا من الأندلس ‏؟‏ فأقول لك ‏:‏ لأن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ‏.‏‏.‏ ثم أقول لك عبرة التاريخ ‏.‏‏.‏ قانون سقوطنا ‏:‏ ‏"‏ حين يبحث كل عضو منا عن نفسه تسقط سائر الأعضاء ‏"‏ ‏.‏

 سقوط غرناطة

كان بقاء مملكة غرناطة الإسلامية في الأندلس قرنين من الزمان معجزة من معجزات الإسلام ‏.‏

فهذه الجزيرة الإسلامية العائمة فوق بحر الصليبية المتلاطم الأمواج والطافح بالحقد والمكر التاريخيين ‏.‏‏.‏ هذه الجزيرة ما كان لها أن تصمد صمودها المشهور إلا لأن طبيعة الصمود كامنة في العقيدة والمبادئ الإسلامية ‏.‏ وبدون العقيدة الإسلامية ‏.‏‏.‏ ما كان لهذه الجزيرة أن تصمد وحدها في الأندلس بعد أن سقطت كل المدن والقلاع الإسلامية منذ قرنين من الزمان ‏.‏

كان قانون ‏"‏ الاستجابة للتحدي ‏"‏ هو الذي أبقى غرناطة حية زاخرة بالفكر الإسلامي والرقي الحضاري هذين القرنين ‏.‏‏.‏ وكان شعور الغرناطيين بأنهم أمام عدو محيط بهم من كل جانب ، ينتظر الفرصة لالتهامهم ، وبأنه لا أمل لهم في استيراد النصر من العالم الإسلامي ، وبأنه لا بد لهم من الاعتماد على أنفسهم ‏.‏‏.‏ كان هذا الشعور باعثهم الأكبر على الاستعداد الدائم ‏.‏‏؟‏ ورفع راية الجهاد والتمسك بإسلامهم ‏.‏

وبهذا نجحت غرناطة في أن تظل إلى سنة 1492م ‏(‏ 897 هـ‏)‏ سيدة الأندلس الإسلامي ومنارة العلوم وشعلة الحضارة الإسلامية الباقية في أوربا ‏.‏

لكن الأعوام القريبة من عام السقوط شهدت تطورا في الحياة الأندلسية ‏.‏‏.‏ فعلى المستوى النصراني بدأ ‏"‏ اتحاد ‏"‏ كبير يضم أكبر مملكتين مسيحيتين مناوئتين للإسلام ‏.‏‏.‏ وهما مملكتا أرجوان وقشتالة ، وقد اندمج الاثنان في اتحاد توجاه بزواج ‏"‏ إيزابيلا ‏"‏ ملكة قشتالة من ‏"‏ فرناند ‏"‏ ملك أرجوان ‏.‏‏.‏ وكان الحلم الذي يراود الزوجين الملكين الكاثوليكيين ليلة زفافهما هو دخول غرناطة ‏.‏‏.‏ وقضاء شهر عسلهما في الحمراء ، ورفع الصليب فوق برج الحراسة في غرناطة - أكبر أبراجها - وعلى المستوى الإسلامي ‏.‏‏.‏ كان ‏"‏ خلاف ‏"‏ كبير قد دب داخل مملكة غرناطة ولا سيما بين أبناء الأسرة الحاكمة ، وتم تقسيم مملكة غرناطة المحدودة قسمين ، يهدد كل قسم منهما الآخر ويقف له بالمرصاد ‏.‏‏.‏ قسم في العاصمة الكبيرة ‏(‏ غرناطة ‏)‏ يحكمه أبو عبد الله محمد علي أبو الحسن النصري ‏(‏ آخر ملوك غرناطة ‏)‏ وقسم في ‏(‏ وادي آش ‏)‏ وأعمالها يحكمه عمه أبو عبد الله محمد المعروف بالزغل ‏.‏

وقد بدأ الملكان الكوثوليكيان هجومهما على ‏(‏ وادي آش ‏)‏ سنة 894 هـ ، ونجحا في الاستيلاء على وادي آش وألمرية وبسطة ‏.‏‏.‏ وغيرها ، بحيث أصبحا على مشارف مدينة غرناطة ‏.‏

وقد أرسلا إلى السلطان أبي عبد الله النصري يطلبان منه تسليم مدينة الحمراء الزاهرة ، وأن يبقى هو حيا في غرناطة تحت حمايتها ‏.‏‏.‏ وكما هي العادة في الملوك الذين يركبهم التاريخ وهو يدور إحدى دوراته ، كان هذا الملك ضعيفا ‏.‏‏.‏ لم يحسب حسابا لذلك اليوم ‏.‏‏.‏ ولقد عرف أن هذا الطلب إنما يعني الاستسلام بالنسبة لآخر ممالك الإسلام في الأندلس فرفض الطلب ودارت الحرب بين المسلمين والنصارى واستمرت عامين ‏.‏‏.‏ يقودها ويشعل الحمية في نفوس المقاتلين فيها فارس إسلامي من هؤلاء الذين يظهرون كلمعة الشمس قبل الغروب ‏"‏ موسى بن أبي الغسان ‏"‏ ‏.‏

وبفضل هذا الفارس وأمثاله وقفت غرناطة في وجه الملكين الكاثوليكيين عامين وتحملت حصارهما سبعة أشهر ‏.‏‏.‏

لكن مع ذلك ‏.‏‏.‏ لم يكن ثمة شك في نهاية الصراع ‏.‏‏.‏ فأبو عبد الله الذي لم يحفظ ملكه حفظ الرجال ‏.‏ والانقسام العائلي والخلاف الداخلي في المملكة في مقابل اتحاد تام في الجبهة المسيحية ‏.‏‏.‏ مضافا إلى ذلك حصاد تاريخ طويل من الضياع والقومية الجاهلية والصراع بعيدا عن الإسلام ‏.‏‏.‏ عاشته غرناطة وورثته مما ورثته عن الممالك الإسلامية الإسبانية الساقطة ‏.‏

كل هذه العوامل قد عملت على إطفاء آخر شمعة إسلامية في الأندلس ‏.‏

وعندما كان أبو عبد الله ‏(‏ آخر ملوك غرناطة هذا ‏)‏ يركب سفينته مقلعا عن غرناطة الإسلامية ، مودعا آخر أرض تنفست في مناخ إسلامي في أوروبا بعد ثمانية قرون عاشتها في ظلال الإسلام ‏.‏‏.‏‏.‏

في هذا الموقف الدرامي العنيف ‏.‏‏.‏ بكى أبو عبد الله ملكه ‏"‏ وملك الإسلام المضاع، وتلقى من أمه الكلمات التي حفظها التاريخ ‏(‏ ابك مثل النساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال ‏)‏ ‏.‏

والحق أن أمه بكلمتها تلك ، إنما كانت تلطمه وتلطم حكاما في الإسلام كثيرين ‏.‏‏.‏ بكوا مثل النساء ملكا لم يحفظوه حفظ الرجال ‏!‏‏!‏‏!‏ ‏.‏